اْين انتي يا فرقة العاشقين واغانيك الفلكلورية

الأغنية الوطنية.. هل تعود العاشقين؟!

الكاتب: هاني عوكل
حينما نتحدث عن الثورة الفلسطينية المعاصرة وانطلاقة الانتفاضات الأولى والثانية، لا يمكن لنا أبداً إغفال الأغنية الوطنية في مسيرة المقاومة والتحرر، كيف لا وهي شكل من أشكال المقاومة بطريقة الغناء الوطني المسؤول، الذي لخص وأصَّل لفلكلور فلسطيني بقي ويبقى خالداً مخلداً على مراحل التاريخ وتطور نضال الشعب الفلسطيني.

ولأن مسيرة الشعب الفلسطيني بكل ثقافاته زاخرة بهذا الفيض من الأغاني الوطنية والشعبية وكل أنواع ومقامات الغناء والدبكة، فإنه من الضروري تسليط الضوء على صعود الأغنية الوطنية وظهور ملامحها في فرقة "العاشقين"، مع مراجعة أسباب "الموت السريري" الذي فاجأ الفرقة وتأثير ذلك على إنتاج وضخ المزيد من الأغاني الوطنية.

إذا كنا نتحدث عن تأسيس وتشكيل فرقة "العاشقين" المعروفة لدى الصغير منا والكبير، فإن الفضل لا يعود إلى شخص واحد، وإنما للعشرات ممن ساهموا في تشكيل وإغناء هذه التجربة الغنائية الوطنية منذ بدايات انطلاقتها وحتى مرحلة سباتها القسري!

لقد كانت أغنية "اللوز الأخضر" ومطلعها "والله لزرعك بالدار.. يا عود اللوز الأخضر"، هذه الأغنية التي انتشرت بسرعة الصاروخ عام 1977، شكلت مفتاحاً سحرياً لانطلاقة فرقة "العاشقين"، فقد كان كاتب الأغنية الشاعر أحمد دحبور، الذي عمل في دائرة الثقافة والإعلام بمنظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، الدينامو المهم في تأسيس الفرقة، خصوصاً بعد أن لاقت "اللوز الأخضر" صدىً قوياً في كافة أنحاء التواجد الفلسطيني.

الأغنية المذكورة لحنها الأستاذ الكبير حسين نازك الذي أثرى المكتبة الفلسطينية بالمسلسلات والأغاني الوطنية، وهو صاحب الفضل في تلحين مسلسل الأطفال التفلزيوني الشهير "افتح يا سمسم" الذي أنتج في الكويت عام 1978، وهذا الرجل الفلسطيني المقدسي لم يبخل في تقديم كل وقته من أجل تذوق وقبول المفردات باللحن الجميل، فهو الذي نقلنا من حلاوة النص إلى روح الأغنية، وهو الذي خلق فينا معنى الإحساس والانتماء للأغنية الوطنية، التي كانت بدورها تنقلنا إلى العَلم والوطن والحرية.. إلخ.

في العام 1977، كان الأستاذ عبدالله الحوراني يشغل منصب المدير العام لدائرة الثقافة والإعلام في منظمة التحرير الفلسطينية، ووجد بصحبة دحبور ونازك حسين، أهمية كبرى لتأسيس فرقة غناء وطني تلاصق المقاومة الفصائلية والشعبية، وتمدها بالزخم الثوري.

وقع الاتفاق على تشكيل الفرقة تحت اسم "أغاني العاشقين"، وانطلقت أعمالها عام 1979 بمجموعة من الشباب والصبايا ليسوا فلسطينيين فقط، وإنما كان هناك سوريون ولبنانيون أحبوا القضية الفلسطينية وكان لهم الفضل في إشراك وضخ مخزونهم الفني الذي قدّم نموذجاً صارخاً للأغنية الوطنية وللدبكة أيضاً، وحصل التحول الثاني للفرقة بعد تشكيل مجموعة الرقص التي انضمت "أغاني العاشقين" في العام 1982، وصار الاسم "فرقة العاشقين".

تجولت الفرقة مع أغانيها الوطنية في دول عربية وأوروبية كثيرة، وكان الشاعر أحمد دحبور يكتب بين وقت وآخر للفرقة، ولا أحد يستثني أيضاً الكاتب والشاعر صلاح الحسيني (أبو الصادق) الذي شكل مفصلاً مهماً جداً في تأسيس الفرقة. ولم يقتصر الإمداد الشعري على دحبور وأبو الصادق، وإنما اقترنت الكثير من الأغاني الوطنية للفرقة بأسماء شعراء كبار، مثل نوح إبراهيم، صاحب مرثية "من سجن عكا طلعت جنازة... محمد جمجوم وفؤاد حجازي".

لقد استمدت أغاني العاشقين "خبزها"، أي أغانيها الوطنية من المسلسل المشهور "عز الدين القسام" الذي عرض على شاشات التلفزيون في سوريا والدول العربية عام 1980، وضخ آل هباش بأبنائهم محمد وخالد وخليل وأحمد والصبايا فاطمة وآمنة، فهؤلاء جميعهم شاركوا في تأسيس "أغاني العاشقين"، بالإضافة إلى صاحب الصوت الجبلي حسين منذر (أبوعلي).

محمد هباش كان يردد المواويل وأخاه خالد ظل ينتقل بين ترديد الأغاني واستخدام الآلات كالقانون والمجوز، وأما حسين منذر الذي اشتهر بتأديته أغانٍ منفردة لقوة صوته، وشاركهم في تقديم الوصلات الفنية، فرقة كان يديرها الكردي السوري ميزر مارديني، وهو الذي جمع فنه وأضافه إلى الدبكة الفلسطينية بمساعدة بثينة منصور.

عام الاجتياح الإسرائيلي لبيروت 1982، ظل البحث قائماً حول إنتاج الأغاني الوطنية المرادفة للعمل الوطني. وقتها سجلت فرقة "العاشقين" انتفاضة غنائية بأغنيتها "اشهد يا عالم علينا وع بيروت.. اشهد للحرب الشعبية.. واللي ما شاف بالغربال يا بيروت.. أعمى بعيون أمريكية"، إذ وثقت هذه الأغنية الاجتياح الإسرائيلي من الجنوب اللبناني، مروراً بالعمق اللبناني وبيروت، وانتهاءً بخروج المقاومة الفلسطينية المسلحة عن الأراضي اللبنانية.

ولم يتوقف إنتاج الأغاني الوطنية، بل زادت شعبية "العاشقين" بسبب التزامها الفني المسؤول، وتحليقها كالعصفور الذي لم يتوقف من بلد إلى آخر، وظلت ترفد الساحة الفلسطينية بالزخم الغنائي النضالي الذي يجدد الدماء الثورية للمناضلين، فضلاً عن من شبوا على تلك الأغاني التي زودتهم بطاقة وحماسة التوق للنضال والتحرر.

ماذا جرى للفرقة؟ في العام 1984 حصل الانشقاق المدوي في حركة "فتح"، قاده أبو موسى الذي شكل "فتح الانتفاضة"، وخرج العرفاتيون من دمشق نحو تونس، وخرجت دائرة الثقافة والإعلام التابعة للمنظمة إلى تونس مع أصحابها، وفي دمشق منشأ الفرقة، جرت محاولات لتسييس "العاشقين" وفق الاصطفافات الحزبية آنذاك، ورفضت الفرقة احتسابها على أي طرف، ونتيجةً لذلك جرى تجفيف الموارد التي تقوم عليها الفرقة.

الذي حصل حقيقةً أن مشكلة بعض تنظيماتنا بأنها ترغب في أمرين، الأول إما أن "تكوش" على كل مشروع ناجح وتضمه إلى حسابها، أو أن تعمل ضد أي ذائقة مهما كان شكلها ولونها، سواء ذائقة فنية أم ذائقة وطنية، طالما كانت هذه الذائقة عكس رياحها. ولأن الفرقة أي "العاشقين" لم يكن همها سوى "فلسطين" فقد استنكف معظم أبطالها عن العمل وفضلوا التنحي أمثال حسين نازك، الذي يمثل عقل وقلب الفرقة.

وبصراحة الفرقة بتلاحمها كانت مثل قطع الدومينو، إذ أن خروج حسين نازك أثر كثيراً على معنويات الفرقة، إلى حين تفككها عام 1986 بسبب ضعف أو حتى توقف الدعم المالي لها. هناك من يؤمن بالمرحلية وأن العمر المحدود لهذه التجربة الغنائية الوطنية أمر طبيعي في ظل التغيرات التي حصلت آنذاك، لكن الجمهور الفلسطيني في الداخل والشتات ونتيجةً لاندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987، كان بحاجة إلى ذائقة ثورية وطنية، تفجر طاقاته النضالية، فقد كان حضور فرقة "العاشقين" أمر ملح.

نتيجة للضغط الشعبي أُعيد تشكيل الفرقة من جديد وانطلقت إلى الأردن عام 1989 للغناء الوطني واستجابةً لمطالب الجمهور وبطلب من المرحوم أبو عمار، ثم تنقلت للغناء بين دول الخليج، البحرين والإمارات وقطر، إلى أن تفككت نهائياً عام 1991. اليوم يجري الحديث عن مساعي إحياء الفرقة "العاشقين"، خصوصاً بعد أن أدت وصلات غنائية في دولة الإمارات العربية المتحدة، وبعد نجاحها الذي يؤكد على أنها تتمتع بصحة وعافية.

لكن إلى اللحظة، يبقى مشروع الإنعاش هذا في إطار التمنيات والأفكار، وإذا كانت منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة ترغبان في إعادة إنتاج وضخ الأغنية الوطنية، فإنه يمكن جمع ولم شتات "العاشقين"، ذلك أن العامود الفقري للفرقة حسين منذر مقيم في دمشق ويعمل سائق "تاكسي"، وأما خالد هباش ابن عائلة هباش التي التصق اسمها بالعاشقين، فهو موجود في الإمارات العربية المتحدة ويعمل في القنصلية موظفاً إدارياً براتب بسيط.

ربما يمكن جمع الفرقة القديمة من جديد، أقلها تدجينها نظراً للظروف الطارئة لدى البعض ممن لا يسعفهم الانخراط في الفرقة كما حالها في السابق، لكن كل ذلك يبقى بيد كل مسؤول فلسطيني يمتلك القدرة على التحرك باتجاه دعم المسيرة الفنية والوطنية.

في أمسية حديثة جداً لفرقة العاشقين الجديدة، حضرها مئات الفلسطينيين في الشارقة، كنا نسمع الأغاني ونبكي من شدة وجعنا على ما يحصل الآن. لقد أثرت أغاني "العاشقين" في ذاكرتنا التي طرقت أيام الطفولة، حينما تربينا على "اشهد يا عالم" و"والله لزرعك بالدار"... إلخ.

"أعطيني خبزاً، أعطيك فناً"، هذا ما قاله لي خالد هباش في اتصال هاتفي، كأنه يرثي حاله وأحوال رفاقه في الفرقة، وكأنه يقول "تخلوا عنا"!

أرجو أن يسمعنا من فوق الشجرة، أو على الأقل نتركهم لهذه المطالع من الأغاني لفرقة "العاشقين" لعلها تُنعش ذاكرتهم وتجعلهم يتحركون: "وردة لجريح الثورة.. وردة للجرح الساطع"، "يا شوفاتٍ للنسر بيسافر بعيد.. بإيده إشارة نصر والعودة أكيدة"، "يما مويل الهوا يما مويليا.. ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيا"، "هبت النار والبارود غنى.. أطلب شباب يا وطن وتمنى"، "شوارع المخيم تغص بالصور.. شهيدنا تكلم فانطق الحجر".